25/02/2023 - 22:35

حوار | تجانس القهر وتمثلات التحرر النسوي في فلسطين

بدر: "في إطار البحث أجريت مقابلات مع 13 أسيرة، وفي هذا الإطار يجدر التنويه إلى أنه في موضوع الأسيرات هناك موضوع السيادة وهناك موضوع التسيد".

حوار | تجانس القهر وتمثلات التحرر النسوي في فلسطين

(Gettyimages)

في مناقشتها لتمثلات "التحرر النسوي الفلسطيني في سياق نشوء النظام السياسي الجديد في أعقاب اتفاقية أوسلو عام 1994"، تجادل الباحثة، نور بدر، في دراسة نشرت، مؤخرا، بأن النضال النسوي الفلسطيني بعد نشوء النظام السياسي الفلسطيني الجديد عام 1994، قد جانس أشكال القهر الموحد التي تمارس على النساء الفلسطينيات باعتباره قهرا، ضمن فضاءات مؤسساتية مادية؛ بمعزل عن تفكيك البنى المادية التي تصطنع القهر على النساء في مواقعهن وتشابكاتها.

خاصة أنهن يتواجدن في سياق استعماري يعمل بصورة يومية على تجسيد ثنائية (المحو والإنشاء) على الأرض، وبموازاة ذلك تحاول الدراسة تفكيك كيفية تعامل هذا الخطاب الجديد مع النساء الفلسطينيات بوصفهن مجموعة واحدة، ضمن تمثلات محددة لشكل القهر.

وتفيد الدراسة بأنه حتى في الحالات التي تم فيها توظيف السياق الاستعماري كأحد عوامل الاضطهاد، فقد جاء ذلك عن تحليل أو تفكيك لهذا العنف البنيوي الذي تعكسه على أجساد النساء الفلسطينيات في مواقعهن المادية، والتي يجري من خلاها تحويلهن إلى "الجسد المعقلن" بتعبير (فوكو شلنج، 2009، صفحة 112) حيث لم يعد الضرب والقتل هو الوسيلة المباشرة للإماتة، بل أضحت الإماتة تمارس عليهن من خلال القهر، القهر المتأثر.

وتشير إلى أن أهمية تفكيك السياق الكولونيالي كأحد أهم الهياكل التي تمارس القهر يعني التركيز على السياق، وهو بالأهمية بحيث جادل إيليا زريق "أن رؤية الاشجار؛ التحديات اليومية، لا يجب أن تغفلنا عن رؤية الغابة (الاستعمار)".

وبهذا الصدد، حاور "عرب 48" الباحثة، نور بدر، لإلقاء مزيد من الضوء حول الموضوع.

"عرب 48": أعتقد أن مقالك هو جزء من دراسة أوسع تناولتِ فيها حالات القهر التي تعاني منها الأسيرات الفلسطينيات والنساء الفلسطينيات المصابات بسرطان الثدي؟

الباحثة نور بدر

بدر: الفكرة الأساسية للدراسة هي أن القهر النسوي في فلسطين غير متجانس وليس له شكل واحد، وأنا أبحث كيف تمت مجانسة القهر في السياق الفلسطيني وأدرسه بالاستناد إلى المواقع المادية الموجود فيها.

في هذا الإطار قمت بتحليل مجموعة من الأدبيات الصادرة عن مؤسسات مجتمع مدني ومؤسسات دولية وغيرها، ووجدت لديها تجانسا في القهر تم تمثيله ضمن ثلاث صور، الأولى أن كل النساء الفلسطينيات يعانين من صعوبة الوصول إلى مراكز صنع القرار، الثانية أن كل النساء الفلسطينيات يعانين من الأبوية الفلسطينية، والثالثة أن كل النساء الفلسطينيات يعانين من تخلف الثقافة المحلية.

ما أقوله إن القهر النسوي في فلسطين ليس ضمن هذه التمثلات المجددة وإنما يتم بالاستناد إلى المواقع الموجودة بها النساء الفلسطينيات، بمعنى أن المرأة الفلسطينية التي تعمل بالمستوطنات الإسرائيلية لا تريد أن تصل إلى مواقع صنع القرار ولا تعاني من الأبوية ولا من تخلف الثقافة المحلية، هي في ضائقة.

لذلك ما قمت به هو أنني عملت على موقعين ماديين لأجل إثبات أن القهر النسوي مرتبط بالمواقع الموجودة بها النساء، وقد اخترت لهذا الغرض، الأسيرات الفلسطينيات والنساء الفلسطينيات المصابات بسرطان الثدي.

"عرب 48": عمليا أنتِ لخصت ما جرى في مقدمة الدراسة بالقول إن "التحرر" النسوي بعد نشوء النظام الجديد قد تبنى الخطاب النخبوي "الناعم" وفق الوصفة النيوليبرالية، وغيب أو همش وجود الاستعمار في حياة النساء اليومية ومأسس هذا النضال بعيدا عن قاعدته الجماهيرية؟

بدر: أستذكر في هذا السياق ما كتبه أحد الباحثين عن انزعاج سلطات الاستعمار في المغرب من نظام البداوة الذي ساد "واحة غريس"، وذلك لأن نظام البداوة بعيد عن الرقابة الاستعمارية وأصبح هناك حاجة لإدماجه في التحديث المديني حتى يصبح ضمن المنظومة الرقابية.

وهذا ما حصل في المنظمات والمؤسسات وخاصة المنظمات النسوية أنه تم دمجها في النظام التحديثي، خصوصا بعد أوسلو، وفي البنية المؤسساتية والبنى الإدارية وما صحبها من عملية بيروقراطية وصاحبها من مفاهيم الشفافية والحوكمة وغيرها، هذه العمليات سحبت المنظمات النسوية من بعدها الجماهيري الذي كانت تعمل بوسطه ومن قاعدتها الشعبية ووضعتها خلف أسوار مغلقة وفرضت عليها منظومة رقابة، هي عمليا سحبتها من نظام "البداوة" في التعبير التشبيهي ووضعتها ضمن منظومة الرقابة فأصبحت تخضع للمتابعة والفحص لبرامجها وأفكارها وأهدافها من قبل هذه المنظومة.

"عرب 48": قلتِ إنكِ استندت في الدراسة إلى موقعين للقهر النسوي، الأسيرات والمصابات بسرطان الثدي؟

بدر: لقد توخيت عدم إعادة إنتاج الباحثة التي تحول نفسها لخبير، تعرف كل شيء والقادرة على استخدام المصطلحات والحديث عن تجارب الآخرين، لذلك توجهت للعمل الميداني، للنساء أنفسهن وعملت على جمع أصوات تلك النسوة وتفكيك خصوصية القهر بالاستناد إلى أصواتهن.

وفي إطار البحث أجريت مقابلات مع 13 أسيرة، وفي هذا الإطار يجدر التنويه إلى أنه في موضوع الأسيرات هناك موضوع السيادة وهناك موضوع التسيد، وعمليا من يمارس السيادة على المكان المتمثل بحيز السجن هو من يمارس التسيد على الأجساد التي تتحرك داخل هذا الحيز.

ما أحكيه هنا هو إطار نظري يحتوي في سياقه شهادات 13 أسيرة فلسطينية يتحدثن عن القهر اليومي الذي يعانينه داخل منظومة السجن، وأنا أستند في هذا الإطار النظري على إيليا زريق الذي يقول إنه لا يمكن تأطير الأشجار التي تمثل التحديات اليومية دون العودة إلى الغابة التي تمثل السياق وهي في هذه الحالة منظومة السجن.

"عرب 48": وفي موضوع النساء الفلسطينيات المصابات بسرطان الثدي؟

بدر: في موضوع سرطان الثدي أتحدث عن خصوصية القهر من خلال وجود النساء في منظومة تسيطر على المكان وعلى الأجساد التي تتحرك داخل المكان أيضا، إنه الموقع المادي في القهر من خلال محاولتهن الوصول للعلاج، حقهن المصادر في السفر لتلقي هذا العلاج، وبالتالي هو ابتعد أيضا عن "مراكز صنع القرار" و"الثقافة الأبوية" و"تخلف الثقافة المحلية" والمسميات الجاهزة.

وما أقوله إن خصوصية القهر في هذا الموقع تتوقف على أربعة هياكل، الأول يتمثل بوجود الاستعمار في حياتهن اليومية من خلال السياسات على الأرض، بينما يتمثل الثاني بمنظومة الصحة الفلسطينية، في حين يتمثل الثالث بالتصورات المجتمعية تجاه المرأة أما الرابع فهو الألم.

هذه الهياكل التي أناقشها يشكل كل هيكل منها جزء من "الغابة"، وهذه الأجزاء هي عبارة عن 30 امرأة فلسطينية من الضفة وغزة يعانين من سرطان الثدي، أجريت معهن مقابلات شخصية حول رحلة العذاب التي يقطعنها أو لا يقطعنها للوصول إلى العلاج.

"عرب 48": تقصدين أن هناك من لم يحالفها الحظ في الوصول إلى الحاجز أصلا؟

بدر: صحيح، لكني لم أتعامل مع القهر والمعاناة على الحاجز كحالة مفروغ منها، أو حالة اعتيادية وطبيعية فمثل هذا التعامل يدفع باتجاه تطبيع هذه السياسات في الخيال الفلسطيني، ويجعلك ترى الحاجز كجزء طبيعي من حياتك، لذلك أنا لم أسأل هل حصلت على تصريح أم لا؟ بل سألت كيف كانت رحلتك؟ وهي تتحدث عن الحاجز والتصريح والمعاناة في إجابتها.

فأنا أقصد بالتفكيك الذي أتحدث عنه إلغائية هذه السياسات، والإلغائية هو مصطلح طرحته المناضلة الأميركية السوداء، أنجيلا ديفيس، حيث يتحدث عن إنتاج الأفكار أولا، والمقصود الأفكار التي تتحدث عن رفض واستنكار هذه السياسات وعدم المرور عليها مر الكرام.

وهذه الأفكار ستتحول يوما ما إلى ممارسة، بمعنى أن الممارسة لن تحصل إذا لم يسبقها إنتاج أفكار، وإنتاج الأفكار ليس حكرا على المثقفين والمؤسسات والكتب والكمبيوتر، بل يحدث أيضا في "ديوان" بيني وبين جاراتي، فإنتاج الأفكار لا يتعلق بمؤسسات بل بمجموعات الأشخاص أينما كانوا، على عتبات البيوت أو حول الطابون أو عند الخياطة.

نساء الحارة عندما يحكين مع بعض ينتجن أفكارا وخطابا، وهذا الخطاب يحمل تشكيكا وإلغاء، وفكرة الإلغاء مرتبطة بفكرة إنتاج الأفكار نحو رفض السياسات وإلغائها بالكلام، وهذا يعارض تطبيع سياسات الاستعمار على الأرض وعدم التعامل معها باعتيادية ومألوفية.

"عرب 48": مرة أخرى تعودين إلى أصوات الناس، فهي التي تنتج الخطاب وهي التي تترجم هذا الخطاب إلى فعل لاحقا؟

بدر: عملية إنتاج المعرفة هي عملية حفر نحو الجذور التي تمثل مراكز القوة، وحتى تحفر حول الجذور وتفكك هذا الوجع يجب أن تستند إلى أصوات الناس الذين عايشوا عنف مراكز القوى تلك، وأن تعود للناس الذين مورس على أجسادهم عنف هذه الهياكل كلها.

وعمليا، عندما تفكك هذه القوى فإنك تفكك الوجه البشري المتوحش للاستعمار ومنظومات القوى المحلية، فالنساء الفلسطينيات عندما تحدثن عن ملاحقة إسرائيل التي ترفض علاجهن، قد فككن الوجه البشري المتوحش لاستعمارها وممكن أن يدفعن ثمنا وهو حظر تصريحهن، وأنا كباحثة ممكن أن أدفع الثمن وهذه هي المعرفة الملتزمة، فأنا لا أدعي الحياد بل أنحاز لهؤلاء الناس المقهورين، لي صديقات أصبن بسرطان الثدي وأخريات تعرضن للاعتقال وأنا جزء من هؤلاء الناس وأنا فقط أضع الإطار "الغابة" الذي يفسر هذه التحديات التي تسيد على أجسادهن.


نور بدر: مرشحة دكتوراة في جامعة تونس في كلية العلوم الإنسانية والاجتماعية، تعمل على أطروحة بعنوان: "الاستعمار في تجسد اليومي: في سوسيولوجيا سيطرة الحكم العسكري الإسرائيلي على الأجساد الفلسطينية ومقاومتها". حاصلة على درجة الماجستير في النوع الاجتماعي والتنمية من جامعة بيرزيت، رسالة الماجستير بعنوان "التهميش المركب: روايات المعتقلات الفلسطينيات عن تجاربهن في الأسر".

تهتم بدر بسوسيولوجيا الحياة اليومية للفلسطينيين في ظل الاستعمار الإسرائيلي، وتركز على تفكيك القهر الذي يستهدف الأجساد الفلسطينية بعملية إبادة بطيئة في إطار حياتهم اليومية. صدر لها كتاب هندسة الاضطهاد سياسات التحكم بالأجساد الصامتة، النساء الفلسطينيات المصابات بسرطان الثدي"، عن مؤسسة روزا لوكسمبورغ. يجري الآن العمل على تحويل هذا الكتاب إلى فيلم وثائقي، بتمويل من مؤسسة يافا، ومؤسسة لوكسمبورغ. حصلت على جائزة دولة فلسطين للعلوم الاجتماعية والإنسانية 2023.

التعليقات